الحياة بقى لونها صيني
عدد القراءات: 10628

بقلم: علاء أبو ضهير

 

امضى عمره في دكانه الصغيرة يعمل في صناعة الاحذية، خمسون عاماً من الشقاء والعمل، لم يعرف خلالها الاجازة او الاستراحة، كان يستمتع في عمله كثيراً، لم يعتبر العمل عملاً بمقدار ما اعتبره متعة واثباتاً للذات، بدأ عمله في الحادية عشرة من العمر فور طرده مع اسرته من مدينة يافا، ليجد نفسه لاجئاً فقيراً في احد احياء البلدة القديمة والمسمى بحي الياسمينة، ذلك الحي الذي استضاف مئات اللاجئين الذين سكنو ازقته ومساجده وغرفه الضيقة البعيدة عن الشمس والنور.

 

لاحقه ذلك الشعور بالفقر والعوز منذ كان في الحادية عشرة من عمره، حين كان يسكن مع والديه واشقائه وشقيقاته واعمامه في غرفة واحدة من ذلك الحي، حيث كانو ينامون على نظام التناوب في غرفة لا تتسع لربع هذا العدد من السكان، دفعه هذا التحدي للبحث عن مكان تحت الشمس في بلد فقير اصلاً، عمل صبياً في دكان لصناعة الاحذية، تعلم فيها وبسرعة كبيرة كل ما قد يحتاج اليه ليباشر عمله المستقل، وسرعان ما استقل عن معلمه الذي بقي صديقاً له يشجعه ويفتخر به وباصراره على العمل، وطالما استذكرا الماضي بعد مضي نصف قرن على ذكريات تعود لايام العمل الشاق، ذلك العمل الذي اعتمد كثيراً على الجهد العضلي قبل دخول الالات الحديثة في التصنيع.

 

كان يستمتع بشراء بعض الاحتياجات المنزلية لعائلته كلما حصل على اجرته الاسبوعية، وفي يوم من الايام، وبعد حصوله على اجرته بعد اسبوع من العمل الشاق، وبينما كان في طريق عودته لاسرته، اعجبته طاولة صغيرة جداً، تشبه تلك الطاولات الرفيعة المستخدمة في المقاهي والمسماة ب "السكمله" اعجبته كثيراً فاشتراها، لم يدرك ما ستفعله هذا السكمله من مشاكل في الغرفة التي يسكنونها، لم يخطر بباله ان الغرفة التي يسكنها مع اهله اضيق من أن تتسع لها، وبعد خلافات مع الاسرة توصل الجميع في النهاية الى ضرورة اعادتها الى البائع، فأعادها بخيبة امل رافقته الى ان قام بعد عشرات السنوات ببناء منزله الكبير، حيث بقي ُيذكّر ابناءه بقصة السكمله كلما تذمر احدهم من شي، كان كابوس الفقر حاضراً امامه دوماً.

 

لم يكن من الرجال الذين احبو الجلوس في المنزل ولا الذهاب الى المقهى، ولم يك من الرجال الذين يهتمون بشيء اكثر من اهتمامهم بالعمل، وبذلك تحولت حياته الى حياة مكرسة للعمل الناجح والمثمر، هذا العمل الذي تمكن بواسطته من تعليم ابنائه وتربيتهم ومساعدتهم على الزواج، ليبنى لكل منهم منزلاً، ويساعدهم ويقدم لهم دوما ما يحتاجون اليه، كان يستمتع كلما اعطى، ويشعر باللذة كلما قام بتوفير ما يحتاج اليه ابناءه من احتياجاتهم المدرسية او الجامعية او المعيشية.

 

وتمضي السنين، وتتغير الاحوال، وتأتي رياح شرقية محملة باطنان ضخمة من البضائع والمصنوعات الجلدية من اقصى الشرق، من الصين وجوارها، بضائع رخيصة الثمن، ولا يمكن منافستها، ولتغلق مئات الدكاكين والمشاغل الصغيرة ابوابها، وليقوم اصحاب المصانع الكبيرة بالتحول الى الاستيراد بدلأ من الانتاج، وليتشرد الاف العمال في الشوارع دون مصدر للرزق، بعد ان امضو عشرات السنوات في مهنهم وحرفهم التي لا يستطيعون اتقان غيرها، تذكرت اغنية للممثلة المصرية الشهيرة سعاد حسني، كانت تغني وتقول فيها: الحياة بقى لونها بمبي، اما انا، وبينما اسير بين ما تبقى من فسحة في شوارع المدينة المكتظة بالبسطات المكدسة بالبضائع الصينية، اقول: الحياة بقى لونها صيني، اصبحنا نلبس الملابس والاحذية الصينية، ونقتني المفروشات المستوردة، والاطعمة المصنوعة في الخارج، واللحوم والمعلبات المستوردة وغيرها، اصبحنا مجتمعاً استهلاكياً، دون ان نضع في اعتبارنا المآسي النفسية والاقتصادية الناتجة عن سياسة خرقاء كهذه، إذ تحول المجتمع الى جيش من الفقراء العاطلين عن العمل، وتحولنا الى امة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع.

 

وتحولت حياة والدي بفضل هذه السياسة الاقتصادية "الحكيمة" الى حياة ملؤها القلق والحزن والالم، بدأت والدتي تتذمر من جلوسه في المنزل بعد ان قام بتسليم محله الذي لم نستطع الاستمرار في تسييره بسبب تراكم المشاكل الاقتصادية الناجمة عن عدم القدرة على البقاء في السوق بسبب سياسة الاستيراد، وبدأت المشاكل والمتاعب الصحية تتزايد بسبب الاعباء النفسية الناتجة عن التوقف عن العمل، كان العمل شفاءً لكل المتاعب، هكذا كان يقول والدي، ففي العمل شفاء للمشاكل العائلية والاجتماعية، وإبتعاد عن المتاعب الاسرية بالاضافة الى تحسينه للحالة النفسية.

 

اعتاد ان يكون معطاءً، ولكن ذات اليد اصبحت قصيرةً، لم يقبل يوما السماح لاحد من ابنائه بانفاق قرش واحد على المنزل، بل كان دوماً يعطينا مصروفنا حتى بعد ان اصبحنا كباراً، اراه متألما لعدم قدرته على مسايرة المستوى الاقتصادي الذي عودنا عليه، ونشعر بالالم الشديد لرؤيته معذباً، لا يستطيع والدي ان يتقبل فكرة مساعدته علىالانفاق على المنزل، لذلك نراه يستيقظ كل صباح كما اعتاد منذ خمسين سنة، ليذهب الى دكانه القديم الذي كان قد هجره قبل عشرات السنوات، ليستأنف العمل والمحاولة من جديد، ينتج حذاءً او اثنين او ثلاثة في اليوم، ويسرع الى السوق لاحضار الغذاء لابنائه كما إعتاد دوماً.

أضف تعليق
تغيير الصورة
تعليقات الزوار

1

Dr.Said ABU-DHEIR، Santiago-Chile
Dear Alaa,A week ago I discovered this lovely web site of my NABLUS and I was sorprised with your articles about our city and its stories.I would like to start my comments about your articles with chinese taste because I know very good this story and its heroe,I remember him when I was a child visiting him in his small factory(if we can call it lik that) with my father.This story could reflect the reality of the majority of the palestinians all over the world and their struggle to survive and to prove their capacity as people and to prove that nobody can remove us from the history.Your heroe has his own story which is a part of our struggle against the injustice through generations until we recover all our rights and our homeland.So,dear Alaa the most important thing of your story is not the chinese taste,but the palestinian taste which did not desapear frome the story during more than fifty years.The chinese taste is a short era and will finish,but our people and our history are eternal lik our palestine.Alaa,my regards for all of you,and remember that your heroe is a proud for his family and his people.God bless our homeland PALESTINE and our people,SALAMY LAKOM.saidhyk@hotmail.com

2

نادر ياسين، فلسطين / نابلس
كم هم كثر الذين تعطلووووا بسبب الاستيراد والاعتماد على البضائع المستورده ..؟! بنظري ليس غريبا اذا اتضح بأن هناك اصحاب رؤوس اموال من أصحاب القرار والنفوذ منتفعون من البضائع المستوره التي تدخل على أرصدتهم الملايين دون أي اعتبار للناس المهمشه والمغلوبه على امرها ، فهمهم الوحيد جمع الاموال فقط لا غير وليذهب أصحاب الشركات والمصانع التي عطّلت بسبب الاستيراد الى الجحيم هم وعائلاتهم :( .. النا الله ..
تصميم وتطوير: ماسترويب